11-تشرين الأول-2016
إيران تخترق العراق وسوريا للوصول إلى المتوسط
لا يكشف تقرير صحيفة الأوبزرفر البريطانية المنحى العام المعروف لاستراتيجية إيران حيال المنطقة، فذلك معلن ومجاهر به من على أعلى منابر النظام الإيراني. لكن التقرير يروي بالتفصيل والشهادات الخطوط التي ترسمها طهران مدينة وراء مدينة وهضبة وراء هضبة في العراق ثم في سوريا لوصل إيران بالبحر المتوسط. وفي ثنايا التقرير نستنج المراقبة الغربية الدقيقة للورش التي تقيمها طهران للهيمنة على المنطقة، ما يطرح أسئلة حول مدى اعتراض العالم أو رعايته للطموحات الإيرانية التي لا نهاية لها.
ولئن كان تقرير الصحيفة البريطانية يكشف عن ممر تعمل طهران على فتحه مخترقا نواحي عراقية وجهات سورية باتجاه المتوسط، فإن المنابر العربية ما برحت تستنكر بصوت عال منطق الهيمنة، الذي يتجاوز بأضعاف حدث الممر وتفاصيله، والذي يتكرّس بتدخل فاضح مباشر لقوات إيرانية مباشرة في الصراع السوري، ناهيك عن تكدس آلاف من الميليشيات الشيعية التابعة لطهران على جبهات القتال في ذلك البلد.
ويعكس منطق الهيمنة نفسه في العراق، بما يكشف عن ذلك التواطؤ التاريخي الذي جرى بين واشنطن وطهران منذ غزو العراق عام 2003، فيما لم يعد التدخل الإيراني في اليمن سرا تحرّك من خلاله طهران حلفاءها لتثبيت إطلالة على دول الخليج من جهة، وإطلالة أخرى على الممرات البحرية الدولية هناك من جهة ثانية. وفي منطق الهيمنة هذا عقدة الفراغ الرئاسي في لبنان، ذلك أن لإشغال قصر بعبدا أثمانا يجب أن تسدد من الإقليم والعالم للحاكم في طهران.
الإمبراطورية الإيرانية
أعلنت طهران في مارس 2015 أنها صارت “تسيطر على أربع عواصم عربية”. وأعلنت نفسها “إمبراطورية عاصمتها بغداد”، وفق تصريحات مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الدينية والأقليات، علي يونسي، فيما لا تتكلم الأوبزرفر البريطانية إلا عن خطة لمدّ طريق معقّد يخترق ربوعا عربية للوصول إلى مياه البحر المتوسط. ومن خلال هذا الكشف – الحدث، الذي تناقلته وسائل الإعلام في العالم، يستنتج التقرير أن الممر العتيد “سيمنح إيران سلطة كبيرة في المنطقة”.
يروي كاتب التقرير، مارتين تشولوف، مسؤول شؤون الشرق الأوسط في الغارديان والأوبزرفر، أن الميليشيات الشيعية في العراق، والتي تتلقى أوامرها من إيران، تسعى لتأمين “هلال من التأثير” عبر العراق وسوريا، يصل إلى الشرق الأوسط، فيما كان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أول من تحدث في ديسمبر من عام 2004 عن سعي إيران لإقامة “هلال شيعي” في المنطقة.
يجيب تقرير تشولوف عن أسئلة تتعلق بموافقة إيران على عدم دخول ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لها إلى مدينة الموصل خلال معركة تحريرها المرتقبة من قبضة داعش. ويعتبر أن للأمر علاقة بخطط طهران القديمة لإنشاء ممر يربطها بالبحر المتوسط.
ويأتي في الإجابة عن هذه الأسئلة أن قوة عسكرية كبيرة من الحشد الشعبي تضع اللمسات الأخيرة للخطط الإيرانية التي كانت تُعد لأكثر من ثلاثة عقود. فصحيح أن عدم إعطاء قوات الحشد دورا مباشرا في الهجوم المقبل لاستعادة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، من قبضة داعش، هدفه طمأنة السّنة في الموصل (وفي العراق)، إلا أن تلك الميليشيات ستأخذ دور العائق من الغرب، مانعة قوات داعش من الفرار نحو معقلهم الأخير في الرقّة بسوريا.
لكن تقرير تشولوف يشير إلى أن مهمة غرب الموصل هي السيطرة على أراض “أساسية” لتحقيق هذا الهدف الإيراني في رسم الممر البري نحو البحر. وينقل التقرير عن مسؤول أوروبي، يراقب دور إيران في العراق وسوريا خلال الأعوام الخمسة الماضية، قوله إن “الإيرانيين كانوا يعملون بجد على هذا”، موضحا أن هذا “سيمكنهم من نقل الأشخاص والموارد بين البحر المتوسط وطهران متى شاءوا، بطرق آمنة محمية من ناسهم أو وكلائهم”.
يعتمد تشولوف في روايته على المقابلات التي أجراها خلال الأشهر الأربعة الماضية مع مسؤولين عراقيين نافذين وشخصيات في شمال سوريا، أكدوا خلالها أن تأسيس الممرات البرية بدأ منذ عام 2014، وأن هذا الطريق معقد المعالم يمر من العراق إلى كردستان العراق، ومنها إلى مناطق الأكراد شمال شرق سوريا، حتى شمال حلب، حيث تخوض إيران وحلفاؤها وميليشياتها معارك ضارية هناك.
وفيما يبدو أن الأمر كان يجري تحت أعين تركيا، يرصد التقرير بداية اعتراض من قبل أنقرة التي أضحت تعتبر أن تلك الورشة ستستدعي علاقة وطيدة بين إيران وحزب العمال الكردستاني، العدو الأول للنظام السياسي التركي.
وتجري الخطة، وفق الأوبزرفر، تحت إدارة الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، بالتنسيق الكامل مع مسؤولين أمنيين وحكوميين كبار في طهران وبغداد ودمشق. ويحتاج التنفيذ الميداني إلى تغييرات ديموغرافية جرت في العراق، وتجري حاليا في سوريا، فيما تعتمد الخطة على مروحة واسع من المجموعات الحليفة التي لا تدرك بالضرورة نهايات الخطط الإيرانية، لكنها تعمل من أجل مصالحها المحلية على تأمين قسطها من الورشة الكبرى.
خارطة الممر
هندسيا، وحسب الصحيفة البريطانية، ينطلق الممر العتيد من نفس النقاط التي استخدمتها إيران لإرسال الدعم والرجال للعراق خلال الـ12 عاما الماضية، وهي نفس الطرق التي استخدمها فيلق القدس لشن حرب عصابات ضد القوات الأميركية أثناء فترة احتلالها للعراق.
والمفارقة، حسب تشيلوف، أن الميليشيات التي تسببت في 25 بالمئة من الخسائر الأميركية في تلك الحقبة، وأبرزها عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وامتداداته، تقاتل داعش هذه الأيام متمتعة بتغطية جوية أميركية.
الطريق من إيران صوب المتوسط يمر ببعقوبة، عاصمة محافظة ديالى (60 ميلا شمال بغداد)، التي تضم خليطا من السنة والشيعة، لينتقل إلى الشمال الغربي، حيث المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم البغدادي قبل شهور.
ينطلق الممر العتيد من نفس النقاط التي استخدمتها إيران لإرسال الدعم والرجال للعراق خلال الـ12 عاما الماضية، وهي نفس الطرق التي استخدمها فيلق القدس لشن حرب عصابات ضد القوات الأميركية أثناء فترة احتلالها للعراق.
ويمتد الطريق إلى بلدة شرقاط في محافظة صلاح الدين، التي سيطرت عليها القوات العراقية في 22 سبتمبر الماضي، على أن تكمل ذلك الطريق نحو الحافة الغربية للموصل، إلى نقطة تبعد خمسين ميلا جنوب غربي سنجار، والتي تمثل النقطة القادمة في الممر، وتفصل بينهما بلدة تلعفر التركمانية، معقل تنظيم الدولة الإسلامية.
وقرب سنجار، يتوجه الطريق إلى معبر رابعة مع سوريا، ومنها إلى بلدات القامشلي وكوباني وصولا إلى عفرين، التي تسيطر عليها جميعا “وحدات حماية الشعبي” الكردية، التي تعتقد إيران بأنها “في المكان المناسب”، بحسب المسؤول الأوروبي.
حلب نقطة مفصلية
يعتبر تقرير الأوبزرفر أن مدينة حلب هي نقطة مفصلية لذلك الممر، وأن المدينة استنزفت جهودا إيرانية تتفوق على كل ما بذل في نقاط أخرى، حيث أرسلت طهران أكثر من 6 آلاف عنصر من الميليشيا التابعة لها، وأكثرها من العراق، لمحاولة السيطرة على حلب الشرقية.
وتنقل الصحيفة البريطانية أن قاسم سليماني كان قال للسياسي العراقي الراحل أحمد جلبي، في عام 2014، إن “خسارة سوريا هي خسارة طهران، وسنحول هذه الفوضى إلى فرصة” لإيران.
ويرى تشيلوف أن تأمين حلب هو مرحلة هامة في المعبر، الذي يمر ببلدتي نبل والزهراء الشيعيتين هناك، ومنهما إلى ضواحي مدينة حمص، ثم إلى الساحل السوري، معقل العلويين هناك، والذي أمنته روسيا بحسب مسؤول سوري كبير ومسؤولين في بغداد.
وتنقل الصحيفة عن علي الخضيري، الذي تصفه بأنه مستشار كل السفراء الأميركيين إلى العراق وأربعة قادة لغرفة العمليات المركزية خلال الأعوام 2003- 2011، قوله إن تأمين الممر نحو البحر المتوسط سيعتبر انتصارا استراتيجيا لإيران، مضيفا أنه “يعزز سلطة إيران على العراق والمشرق، وسيثبت طموحاتها التوسعية في المنطقة”، مشيرا إلى أن “هذا يمثل عبئا لكل رئيس غربي، وحلفاء الغرب في المنطقة، لأنه سيمكن إيران من التوسع المستمر، حيث يتوقع أن تتوجه إلى الخليج في هدفها المعلن تكرارا”.
وترى أوساط أوروبية مراقبة أن تقرير الأوبزرفر يمثل وثيقة غربية عن جانب من الخرائط التي ترسمها إيران في العالم العربي، وهو ما يتناقض مع الروحية التي أرادت واشنطن تسويقها من خلال التوقيع على الاتفاق النووي بين المجتمع الدولي وإيران. لكن التقرير يكشف أيضا عن الخفايا الخلفية لاستبسال إيران في الدفاع عن مصالحها العراقية والسورية، كما يوحي بتعارض كامن للأجندة الإيرانية مع مصالح إقليمية دولية أخرى قد تتناقض ربما مع التقارب الذي ترتسم معالمه بين موسكو وأنقرة.